لماذا تكتب؟

ما مِن كاتب إلا وسُئلَ ذلك السؤال الأزلي عبر تحقيقات الصحافة الثقافية: لماذا تكتب؟ وغالبًا ما كانت تجئ الإجابات كالتالي: أكتبُ لأقترب من الحقيقة، أكتبُ لأكتشف نفسي، أكتبُ لأنتصر للإنسان، أكتبُ لأتطهر من العادية، أكتبُ للدفاع عن الحق والخير والجمال، أكتبُ لئلا تسحقني متناقضات الوجود، إلى آخر تلك المتوالية من الإجابات المثالية التي تموضع الذات الكاتبة في موقع الكائن الذائذ عن كل ما هو أخلاقي وإنساني وجمالي.

والغريب أن السؤال ذاته عندما يُمرّر مرة أخرى على أحد الكُتّاب فإنه لا يتوانى عن ترديد نفس الإجابة التي تبناها في المداخلة الأولى، حتى وإن دخل مرحلة عمرية مختلفة، أو رَاكَمَ من التجارب ما يدفعه للتعامل مع السؤال بشكل مغاير.

تلك الإجابات المثالية التي تبدو بمجملها صحيحة ومحرضة على اعتناق فعل الكتابة، تشير من ناحية أخرى إلى ارتباك الذوات الكاتبة حيال معنى ودوافع ومغزى الكتابة؛ إذ لا ترد إجابات عادية أو بمعنى أدق واقعية، حيث يطغى الإحساس الرسولي على ذات الكاتب وهو يواجه الجمهور بمداخلة مصعّدة معرفيًّا وأخلاقيًّا وجماليًّا، وكأنه يتأمل نفسه في مرآة القارىء الصقيلة.

حتى عندما يواجه بالسؤال في مرحلة عمرية متأخرة، فإنه يستجلب ذات الإحساس وكأنه يتمسك برسالته التنويرية، في الوقت الذي يكون فيه مجرد كاتب يعاني من صعوبة في إكمال مقالة قصيرة، بل ربما يكتب لأنه لايريد أن يُنسى، أو من أجل مكافأة مالية زهيدة تعينه على تكاليف الحياة.

لكل مرحلة عمرية وقودها من الأفكار والمشاعر والمعتقدات والشعارات، وهذا الوقود ينعكس في لغة الكاتب، أي في معجمه الخاص.

وبالتالي فإن دوافع الكاتب، أو بمعنى أدق رساليته تستجيب لمجمل كل تلك التحولات العمرية والخبراتية.

وهو الأمر الذي يحتم على الكاتب إعادة النظر في علاقته بالقارىء وجدوى الكتابة بحيث يعيد صياغة جوابه حول السؤال المعاد تدويره: لماذا تكتب؟ إذ لا يعقل أن تكون الإجابة الأولى غير منتهية الصلاحية، وكأن الذات الكاتبة لا تتغير ولا تمر بأي منعطفات فكرية يجعلها تفكر في فعل الكتابة من منطلقات أكثر واقعية من تلك الإجابات المعلبة.

إن الإجابات الواقعية على ذلك السؤال الاختباري هي التي تفصح عن صدقية الذات الكاتبة.

وهنا ليس المطلوب أن يعبّر الكاتب عن انكساراته وانهزامه بقدر ما هو مطالب بالتعامل بواقعية مع دوافعه للاستمرار في الكتابة، حيث يُفترض أن يقدّم الكاتب الممتلىء بالحكمة والخبرة والتجربة التي أكتسبها بمرور العمر إجابة أقل مثالية وأكثر اقترابًا من الواقع الذي يعيشه، فالقارئ لا يبحث عن عبارات تبشيرية عائمة خارج معطيات الواقع، بل عن حقيقة تعكسها خبرة القارئ بمنجز الكاتب من خلال ميثاق القراءة الذي لا يقبل التسويات ولا المثاليات بل الحقيقة التي تشكل عروة ذلك الميثاق.

محمد العباس، كاتب وناقد سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.

To top